مما رواه لي صديق في بلد عربي، أن دولتهم أعلنت مشروع استمطار السُّحب، وتناقل المجتمع ما سمع، وتداول بعض القرويين من كبار السن خبر الاستمطار، فغدو كل صباح يتأملون السماء، ويترقبون نزول الغيث، وفي إحدى الليالي بعد أن آوى المُسنَّ لفراش نومه، صاح ابنه: أبشرك يابا، السماء تمطر. فقال: هو من مطر ربي، وإلا مطر الحكومة؟ فأجابه: كله من عند ربي.
نحن متوجهون لحقبة وطنية زراعية، وإصلاح بيئي قائم على استزراع الأشجار، وزيادة مساحة الغطاء النباتي، وإقامة المزارع للوصول إلى الاكتفاء الذاتي معيشياً، ولا محيد عن توفير المياه، بالمطر أو بالاستمطار المباح عقلاً وعُرفاً وشرعاً.
يعتقد البعض أن الأديان بمُفردها تُقيم حضارات، ولهم كامل الحق فيما يعتقدون، لكن الواقع يؤكد أن الدِّين عامل ومكوّن من المكونات الثقافية للحضارة، ضمن مكونات أخرى، منها الإنسان، والعِلم، والفكر، والأعراف، والتكنولوجيا، والقوانين، والتقاليد، والطقوس، والفلكلور، والتركز السكاني في المُدن، وتوفر البحار والأنهار، وقوّة مؤسسات الدولة.
أدركتُ في طفولتي المبكّرة (طقوس الاستسقاء) وكان الأهالي يشترون بقرةً من أحدهم، بمبلغ يساهم فيه الكُلّ أو المقتدرون منهم، ثم يطوفون بها أرجاء القرية، والأطفال يرددون من ورائهم أهازيج (يا الله ارحمنا واحسن فينا، يا والينا لا تخلّينا) ( يا الله في مطر وسيل، حِشمة البهم والحسيل)، ثم يؤدون صلاة الاستسقاء، ويذبحونها، وما ينتهون من تقطيع اللحم، الذي سيتوزعونه، إلا ومياه الأمطار تتدافع في سواقي الأودية، وتغطي المزارع أياماً عدة.
ظلّ هذا الطقس إلى مطلع التسعينات الهجرية تقريباً، ثم اختفى، كون الشيخ الداعية عبدالله بن سعدي عليه رحمة الله اعترض على (فعلهم)، وأورد في كتابه الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والمخالفات الوثنية: «ومن العوائد المستمرة عندهم: أنه إذا أصابهم قحط، اجتمع رجال كل قرية واشتروا ثوراً أو بقرة، وطافوا بالثور أو البقرة على جميع أملاك أهل القرية وأوديتهم، ثم ذبحوا البقرة، أو الثور في المحل المعروف المعتاد عندهم وعند الأوائل، لا يمكن تغييره، وبعض أهل القرى يطوفون بالثور أو البقرة، على مسجدهم سبع مرات، ثم يذبحون المطاف به على نصب (صخرة معلومة) لا يتجاوزونهـا بالذبح، فإن مالت الذبيحة عن النصب يميناً أو شمالاً، سحبوها حتى تستقر عليه، ويسمون تلك الذبيحة (التسقية)».
ولعل الشيخ عبدالله رحمه الله، خشي مضاهاة بعض الشعوب التي تقع في الشرك، ممن يذبحون القرابين اعتقاداً منهم أنها (تسترضي آلهة المطر)، وهذا مشهور في أمم وبلدان وثقافات إلى يوم الناس هذا، وفي المضاهاة والتقليد محاكاة الذبح لغير الله، ولعل الشيخ أورده وشنّع عليه من باب سدّ ذرائع وفساد العقائد، وتشدد في الإنكار تفادياً للوقوع فيما لا يغفره ربنا، علماً بأن كبار السنّ ومنهم أحياء إلى يومنا يؤكدون أن ذبح الهيشة يوم الاستسقاء ذبح خالص لله، ومن باب الصدقة على الأهل، كون اللحوم كانت شحيحة، وربما لا تدخل بعض البيوت في العام إلا مرة واحدة في (عيد الأضحى).
لطالما أثارت الدعوة لصلاة الاستسقاء التفكير في آلية إنزال الغيث، والغيث أعمّ وأنفع من المطر، فكل عون من الله غيث، أو غوث أو غياث، وآية (إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث) ليس المقصود به المطر فقط، ومما يبعث الأسئلة أنه ليس كل توقّع نشرات جويّة بهطول الأمطار يتحقق، ولا كل صلاة استسقاء تجلب السحب الهاطلة، فهناك حلقات مفقودة، ربما لا ندركها بحواسنا المحدودة.
يتوقّع الراصد للمناخ، ويرجّح بمشيئة الله، هطول أمطار على مناطق، وتترقب الناس، تشكّل الغيوم، ولمعان البروق، وصوت الرعد، إلا أن نهارهم يبدو صحواً ولا ملامح لأي نوّ، ما يؤكد نسبية التوقعات، وعدم قطعيتها، وهناك بلدان تمطر عليهم على مدار الساعة دون توقعات، ولا صلوات، وهناك بلدان تعاني من فيضانات، ويتوسلون لله أن يوقف عنهم المطر.
ربما لا يتطابق واقع حال مؤدي صلاة الاستسقاء اليوم مع واقع حال أسلافه، كان الأسلاف يبرزون خارج البنيان، ويخرجون في ملابس رثّة تعبّر عن بؤس وشقاء وشُحّ، ويلهجون بأدعية لا تتجاوز خمس كلمات، لكنها تحمل طاقة روحية نفّاثة، لانبعاث الدعاء من مشاعر صادقة، كون الحياة قائمة على الزراعة والرعي. والزراعة والرعي لا يتوفران إلا بالماء، ولا ماء إلا من السماء، فكان الابتهال النابع من حاجة، والتوجه لله بإخلاص وحُسن ظن؛ مظنة الإجابة.
اليوم لا يمكن لأي مدّع تشبيه الأوضاع المعيشية بأوضاع أجدادنا، فالاعتماد اليوم على المُرتّب، إلا من رحم ربي، والبعض من المستجيبين لنداء الاستسقاء، ليس على ملامحهم ذل ولا انكسار، وليسوا مستشعرين الحاجة الماسة للمطر، فالخزّان مليان، وكراتين ماء الصحة تحت الدرج، بل بعضهم يحضر وداخله يغلي بالشحناء، ويمور بالبغضاء لأخيه، وجاره وابن عمه، ناهيك عن تباهيه بملبسه، وعطره، وتركيز نظره على كاميرا المصوّر.
لا غنى عن إحياء سُنة صلاة الاستسقاء، إلا أننا بحاجة لمراجعة أخلاقية، فالأدب مع الله، ومع الخلق، من أسباب استجابة الدعاء، والصدقة، والعفو، والتسامح، والإحسان للأهل والجيران، والبراءة من الظُّلم برد المظالم على أهلها، وترك الغش، والرجوع عن الخيانة لله وللوطن وللأُجراء، كل ذلك وغيره مدعاة لنظر الله فينا بعين الرحمة، وتبديل الحال لما هو أحسن وأمثل.
ومن الأمراض المُستشرية تزكية الذوات، وإدانة الآخرين والأخريات، ورصد أخطاء الأفراد بمجهر، وإغفال محاسبة النفس، وإهمال لومها على التقصير، والبعض لا يستغفر الله إلا قُدّام الناس، فيما لسانه مفلوت في الغيبة والنميمة وهتك الأعراض.
لا ريب أن التعلّق بغير الله مهلكة، قال أحد مربّي الماشية كانت الأغنام قبل عقود، إذا تأخر المطر ترفع رؤوسها للسماء، وتجأر بالثُغاء كبارها وصغارها فتمطر، واليوم كلما شاهدت الشياه شاحنة أعلاف تهذي وتطارد وراءها.
مخاطر هدم أخلاقنا بأيدينا ستؤول بنا لجفاف عاطفي، وسلوكي، وإنساني، ونتحوّل إلى كائنات جِلفة، وربما مكائن بلا مشاعر، والبحث عن نقاط ضعفنا دينياً ودنيوياً ضرورة، اتقاءً للقحط والعطش، والفتن لا تصيب الذين ظلموا خاصةً بل تعمّ، فمن سيعلّق الجرس ويقول: اللهم لا تمنع غيثك عن مجتمعي بسبب ذنوبي وظُلمي لنفسي ولخلقك؟!
نحن متوجهون لحقبة وطنية زراعية، وإصلاح بيئي قائم على استزراع الأشجار، وزيادة مساحة الغطاء النباتي، وإقامة المزارع للوصول إلى الاكتفاء الذاتي معيشياً، ولا محيد عن توفير المياه، بالمطر أو بالاستمطار المباح عقلاً وعُرفاً وشرعاً.
يعتقد البعض أن الأديان بمُفردها تُقيم حضارات، ولهم كامل الحق فيما يعتقدون، لكن الواقع يؤكد أن الدِّين عامل ومكوّن من المكونات الثقافية للحضارة، ضمن مكونات أخرى، منها الإنسان، والعِلم، والفكر، والأعراف، والتكنولوجيا، والقوانين، والتقاليد، والطقوس، والفلكلور، والتركز السكاني في المُدن، وتوفر البحار والأنهار، وقوّة مؤسسات الدولة.
أدركتُ في طفولتي المبكّرة (طقوس الاستسقاء) وكان الأهالي يشترون بقرةً من أحدهم، بمبلغ يساهم فيه الكُلّ أو المقتدرون منهم، ثم يطوفون بها أرجاء القرية، والأطفال يرددون من ورائهم أهازيج (يا الله ارحمنا واحسن فينا، يا والينا لا تخلّينا) ( يا الله في مطر وسيل، حِشمة البهم والحسيل)، ثم يؤدون صلاة الاستسقاء، ويذبحونها، وما ينتهون من تقطيع اللحم، الذي سيتوزعونه، إلا ومياه الأمطار تتدافع في سواقي الأودية، وتغطي المزارع أياماً عدة.
ظلّ هذا الطقس إلى مطلع التسعينات الهجرية تقريباً، ثم اختفى، كون الشيخ الداعية عبدالله بن سعدي عليه رحمة الله اعترض على (فعلهم)، وأورد في كتابه الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والمخالفات الوثنية: «ومن العوائد المستمرة عندهم: أنه إذا أصابهم قحط، اجتمع رجال كل قرية واشتروا ثوراً أو بقرة، وطافوا بالثور أو البقرة على جميع أملاك أهل القرية وأوديتهم، ثم ذبحوا البقرة، أو الثور في المحل المعروف المعتاد عندهم وعند الأوائل، لا يمكن تغييره، وبعض أهل القرى يطوفون بالثور أو البقرة، على مسجدهم سبع مرات، ثم يذبحون المطاف به على نصب (صخرة معلومة) لا يتجاوزونهـا بالذبح، فإن مالت الذبيحة عن النصب يميناً أو شمالاً، سحبوها حتى تستقر عليه، ويسمون تلك الذبيحة (التسقية)».
ولعل الشيخ عبدالله رحمه الله، خشي مضاهاة بعض الشعوب التي تقع في الشرك، ممن يذبحون القرابين اعتقاداً منهم أنها (تسترضي آلهة المطر)، وهذا مشهور في أمم وبلدان وثقافات إلى يوم الناس هذا، وفي المضاهاة والتقليد محاكاة الذبح لغير الله، ولعل الشيخ أورده وشنّع عليه من باب سدّ ذرائع وفساد العقائد، وتشدد في الإنكار تفادياً للوقوع فيما لا يغفره ربنا، علماً بأن كبار السنّ ومنهم أحياء إلى يومنا يؤكدون أن ذبح الهيشة يوم الاستسقاء ذبح خالص لله، ومن باب الصدقة على الأهل، كون اللحوم كانت شحيحة، وربما لا تدخل بعض البيوت في العام إلا مرة واحدة في (عيد الأضحى).
لطالما أثارت الدعوة لصلاة الاستسقاء التفكير في آلية إنزال الغيث، والغيث أعمّ وأنفع من المطر، فكل عون من الله غيث، أو غوث أو غياث، وآية (إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث) ليس المقصود به المطر فقط، ومما يبعث الأسئلة أنه ليس كل توقّع نشرات جويّة بهطول الأمطار يتحقق، ولا كل صلاة استسقاء تجلب السحب الهاطلة، فهناك حلقات مفقودة، ربما لا ندركها بحواسنا المحدودة.
يتوقّع الراصد للمناخ، ويرجّح بمشيئة الله، هطول أمطار على مناطق، وتترقب الناس، تشكّل الغيوم، ولمعان البروق، وصوت الرعد، إلا أن نهارهم يبدو صحواً ولا ملامح لأي نوّ، ما يؤكد نسبية التوقعات، وعدم قطعيتها، وهناك بلدان تمطر عليهم على مدار الساعة دون توقعات، ولا صلوات، وهناك بلدان تعاني من فيضانات، ويتوسلون لله أن يوقف عنهم المطر.
ربما لا يتطابق واقع حال مؤدي صلاة الاستسقاء اليوم مع واقع حال أسلافه، كان الأسلاف يبرزون خارج البنيان، ويخرجون في ملابس رثّة تعبّر عن بؤس وشقاء وشُحّ، ويلهجون بأدعية لا تتجاوز خمس كلمات، لكنها تحمل طاقة روحية نفّاثة، لانبعاث الدعاء من مشاعر صادقة، كون الحياة قائمة على الزراعة والرعي. والزراعة والرعي لا يتوفران إلا بالماء، ولا ماء إلا من السماء، فكان الابتهال النابع من حاجة، والتوجه لله بإخلاص وحُسن ظن؛ مظنة الإجابة.
اليوم لا يمكن لأي مدّع تشبيه الأوضاع المعيشية بأوضاع أجدادنا، فالاعتماد اليوم على المُرتّب، إلا من رحم ربي، والبعض من المستجيبين لنداء الاستسقاء، ليس على ملامحهم ذل ولا انكسار، وليسوا مستشعرين الحاجة الماسة للمطر، فالخزّان مليان، وكراتين ماء الصحة تحت الدرج، بل بعضهم يحضر وداخله يغلي بالشحناء، ويمور بالبغضاء لأخيه، وجاره وابن عمه، ناهيك عن تباهيه بملبسه، وعطره، وتركيز نظره على كاميرا المصوّر.
لا غنى عن إحياء سُنة صلاة الاستسقاء، إلا أننا بحاجة لمراجعة أخلاقية، فالأدب مع الله، ومع الخلق، من أسباب استجابة الدعاء، والصدقة، والعفو، والتسامح، والإحسان للأهل والجيران، والبراءة من الظُّلم برد المظالم على أهلها، وترك الغش، والرجوع عن الخيانة لله وللوطن وللأُجراء، كل ذلك وغيره مدعاة لنظر الله فينا بعين الرحمة، وتبديل الحال لما هو أحسن وأمثل.
ومن الأمراض المُستشرية تزكية الذوات، وإدانة الآخرين والأخريات، ورصد أخطاء الأفراد بمجهر، وإغفال محاسبة النفس، وإهمال لومها على التقصير، والبعض لا يستغفر الله إلا قُدّام الناس، فيما لسانه مفلوت في الغيبة والنميمة وهتك الأعراض.
لا ريب أن التعلّق بغير الله مهلكة، قال أحد مربّي الماشية كانت الأغنام قبل عقود، إذا تأخر المطر ترفع رؤوسها للسماء، وتجأر بالثُغاء كبارها وصغارها فتمطر، واليوم كلما شاهدت الشياه شاحنة أعلاف تهذي وتطارد وراءها.
مخاطر هدم أخلاقنا بأيدينا ستؤول بنا لجفاف عاطفي، وسلوكي، وإنساني، ونتحوّل إلى كائنات جِلفة، وربما مكائن بلا مشاعر، والبحث عن نقاط ضعفنا دينياً ودنيوياً ضرورة، اتقاءً للقحط والعطش، والفتن لا تصيب الذين ظلموا خاصةً بل تعمّ، فمن سيعلّق الجرس ويقول: اللهم لا تمنع غيثك عن مجتمعي بسبب ذنوبي وظُلمي لنفسي ولخلقك؟!